جواهر المعاني:
ومن كلامه رضي الله عنه، قال : أوّل موجود أوجده
الله تعالى من حضرة الغيب هو روح سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم، ثمّ نَسَلَ
الله أرواح العالم من روحه صلى الله عليه وسلم، والروح ههنا هي الكيفيّة التي بها
مادة الحياة في الأجسام، وخلق من روحه صلى الله عليه وسلم الأجسام النورانيّة
كالملائكة ومن ضاهاهم، وأمّا الأجسام الكثيفة الظلمانيةّ فإنّما خلقت من النسبة
الثانية من روحه صلى الله عليه وسلم، فإنّ لروحه صلى الله عليه وسلم نسبتين
أفاضهما على الوجود كلّه، فالنسبة الأولى نسبة النور المحض، ومنه خلقت الأرواح
كلّها والأجسام النورانيّة التي لا ظلمة فيها، والنسبة الثانية من نسبة روحه صلى
الله عليه وسلم نسبة الظلام، ومن هذه النسبة خلق الأجسام الظلمانيّة كالشياطين
وسائر الأجسام الكثيفة والجحيم ودركاتها، كما أنّ الجنّة وجميع درجاتها خلقت من
النسبة النورانيّة، فهذه نسبة العالم كلّه إلى روحه صلى الله عليه وسلم .
أمّا
حقيقته المحمّديّة صلى الله عليه وسلم فهو أوّل موجود أوجده الله تعالى من حضرة
الغيب، وليس عند الله من خلقه موجود قبلها، لكن هذه الحقيقة لا تعرف بشيء . وقد
تعسّف بعض العلماء بالبحث في هذه الحقيقة، قال : إنّ هذه الحقيقة مفردة ليس معها
شيء، فلا تخلو إمّا أنْ تكون جوهرا أو عرضا . فإنّها إنْ كانت جوهرا افتقرتْ إلى
المكان الذي تحلّ فيه فلا تستقلّ بالوجود دونه، فإن وجدت مع مكانها دفعة واحدة فلا
أوّليّة لها لأنّهما اثنان، وإنْ كانت عرضا ليست بجوهر فالعرض لا كلام عليه، إذ لا
وجود للعرض إلاّ قدْر لمحة العين ثمّ يزول . أين الأوّليّة التي قلتم ؟ والجواب عن
هذا المحطّ : أنّها جوهر حقيقة له نسبتان، نورانية وظلمانية . وكونه مفتقرا إلى
المحلّ لا يصحّ هذا التحديد لأنّ هذا التحديد يعتدّ به من تثبّط عقله في مقام
الأجسام، والتحقيق أنّ الله تعالى قادر على أن يخلق هذه المخلوقات في غير محلّ
تحلّ فيه، وكون العقل يقدّر استحالة هذا الأمر بعدم الإمكان بوجود الأجسام بلا
محلّ فإنّ تلك عادة أجراها الله تثبّطَ بها العقلُ ولم يطلق سراحه في فضاء
الحقائق، ولو أطلق سراحه في فضاء الحقائق لَعَلِمَ أنّ الله قادر على خلق العالم
في غير المحلّ . وحيث كان الأمر كذالك، فالله تعالى خلق الحقيقة المحمّديّة جوهرا
غير مفتقر إلى المحلّ، فلا شكّ أنّ من كشف له عن الحقيقة الإلهيّة علم يقينا
قطعيّا أنّ إيجاد العالم في غير محلّ ممكن إمكانا صحيحا . أمّا الحقيقة المحمّديّة
فهي في هذه المرتبة لا تعرف ولا تدرك ولا مطمع لأحد في نيلها في هذا الميدان . ثمّ
استّترتْ بألباس من الأنوار الإلهيّة واحتجبت بها عن الوجود، فهي في هذا الميدان
تسمّى روحا بعد احتجابها بالألباس، وهذا غاية إدراك النبيّين والمرسلين والأقطاب،
يَصِلُونَ هذا المحلّ ويقفون . ثمّ استترت بألباس من الأنوار أخرى وبها سُمِّيَتْ
عقلا . ثمّ استترت بألباس من الأنوار الإلهيّة أخرى فسمّيت بسببها قلبا . ثمّ
استترت بألباس من الأنوار الإلهيّة أخرى فسمّيت بسببها نفسا . ومن بعد هذا ظهر
جسده الشريف صلى الله عليه وسلم . فالأولياء مختلفون في الإدراك لهذه المراتب .
فطائفة غاية إدراكهم نفسه صلى الله عليه وسلم، ولهم في ذلك علوم وأسرار ومعارف .
وطائفة فوقهم غاية إدراكهم قلبه صلى الله عليه وسلم، ولهم في ذلك علوم وأسرار
ومعارف أخرى . وطائفة فوقهم غاية إدراكهم عقله صلى الله عليه وسلم، ولهم بحسب ذلك
علوم وأسرار ومعارف أخرى . وطائفة، وَهُمْ الأعلون، بلغوا الغاية القصوى في
الإدراك فأدركوا مقام روحه صلى الله عليه وسلم، وهو غاية ما يُدرَك، ولا مطمع لأحد
في درك الحقيقة في ماهيّتها التي خلقت فيها . وفي هذا يقول أبو يزيد : " غصت
لجّة المعارف طلبا للوقوف على عين النبيّ صلى الله عليه وسلم فإذا بيني وبينها ألف
حجاب من نور، لو دنوتُ من الحجاب الأوّل لاحترقتُ به كما تحترق الشعرة إذا ألقيتْ
في النار " . وكذا قال الشيخ مولانا عبد السلام في صلاته : " وله تضاءلت
الفهوم فلم يدركه مِنَّا سابق ولا لاحق " . وفي هذا يقول أويس القرني لسيّدنا
عليّ وسيّدنا عمر رضي الله عنهما : لم تريا من رسول الله صلّى عليه وسلّم إلاّ
ظِلَّه، قالا : ولا ابن أبي قحافة ؟ قال : ولا ابن أبي قحافة . فلعلّه غاص لجّة
المعارف طلبا للوقف على عين الحقيقة المحمّديّة فقيل له : هذا أمر عجز عنه أكابر
الرسل والنبيّين فلا مطمع لغيرهم فيه . إنتهى .